د. عبد الفتاح الحسيني
النسخ هو بيان انتهاء حكم شرعي بطريق شرعي متراخ عنه أي أنه إذا جاء نص شرعي بحكم ثم جاء بعده بزمن نص آخر يبطل العمل بحكم النص الأول في كل ما يتناوله أو في بعضه سعى النص الأول منسوخا والنص الثاني ناسخا وإبطال حكم النص الأول في كل ما يتناوله أو بعضه يسمى نسخا .
قال تعالى: ماننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير ومن أمثلة النسخ قال تعلى:والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج).
وهذه الآية تم نسخها بقوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا).
فالآية الأولى قد زال حكمها وهو وجوب الاعتداد بالحول بأية الاعتداد بالأشهر وبقيت أحكامها المتعلقة بتلاوتها وجواز قراءتها في الصلاة .
ومن أمثله النسخ أيضا هو ترك الأحكام المتعلقة بالتلاوة دون الحكم إن كان النسخ للتلاوة فقط كما روى عن الشافعي وغيره عن عمر رضي الله عنه : لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله )
فوجوب الرجم المأخوذ من الآية باق مع زوال الأحكام المتعلقة بالتلاوة أو تركهما جميعا أي الحكم والتلاوة أو تركهما جميعا أي الحكم والتلاوة فقد روي عن عائشة رضي الله عنها : كان فيما أنزل عشر رضعات يحرمن فنسخن بخمس معلومات .
فالحكم وهو تحديد الرضاع المحرم بالعشر قد زال وكذلك الأحكام الخاصة بالتلاوة قد انتهت
الأدلة التي ينسخ بعضها بعضا:
اتفق القائلون بالنسخ على جوازه إذا كان الناسخ والمنسوخ من جنس واحد وهذا على إثر أنواع أربعة :
أولها : نسخ القران بالقرآن .
ثانيها: نسخ السنة المتواترة بمثلها.
ثالثها: نسخ السنة الآحاد بمثلها.
رابعها نسخ السنة الآحاد المتواترة.
ثم اختلفوا فيما عدا ذلك وهو يشمل الحالات الآتية:
1: نسخ القرآن بالسنة المتواترة .
2: نسخ السنة المتواترة أو الآحاد بالقرآن.
3: نسخ السنة المتواترة بالآحاد.
أولا نسخ القرآن بالسنة المتواترة :
اختلف العلماء في نسخ القرآن بالسنة المتواترة بين مانع لذلك ومجوز كما أن القائلين بالجواز اختلفوا في وقوعه فمن قائل بعدمه ومن قال بوقوعه وبناء على ذلك يكون الكلام في مقامين مقام الجواز ومقام الوقوع.
1: الجواز: اختلف العلماء في جواز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة على ما يأتي:
أ: قال الجمهور بجواز ذلك .
ب: نقل عن الشافعي قول بعدم الجواز .
أدلة الجمهور :
استدل الجمهور على الجواز بقوله تعلى : ( وأنزلنا الذكر لتبين للناس مانزل إليهم ) أي لتبين لهم ما نزل إليهم من القرآن والنسخ تبيين لما نزل .
2: السنة المتواترة وحي من عند الله كالقرآن وكل منهما قطعي الثبوت وحيث لا فارق في هذا فلا مانع من نسخ أحدهما بالآخر فيتعين الجواز.
3: إن الرسول (ص) بعث مبينا فيجوز له أن يبين مدة حكم ثبت بالكتاب بوحي غير قرآن كما يجوز أن يبين الله بوحي هو قرآن مدة حكم ثبت بوحي غير قرآن.
أدلة الإمام الشافعي ؟
1: قال الله تعالى ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) فهذه الآية أفادت أن السنة جعلت بيانا للقرآن لا ناسخة له إذ لو كانت ناسخة لكانت رافعة لا مبينة.
2: قال الله تعالى ( وقال الذين لايرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن إن أتبع إلا ما يوحى إلي ).
فهذه الآية تدل على أن القرآن لا ينسخ بالسنة لأنها نابعة من نفس الرسول.
3: قال الله تعالى ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير ).
وجه الاستدلال بالآية :
أ: أسند الله تعالى الإتيان بالبدل إلى ذاته الكريمة والذي يأتي به الله تعالى هو القرآن فقط فيكون الناسخ للقرآن فقط القرآن لا السنة.
ب: جعل الله البدل خير من المبدل المنسوخ أو مثلا له والسنة ليست كذلك.
4: قال الله تعالى ( وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل ).
تعليق د. عبد الفتاح الحسيني رئيس جامعة الأزهر سابقا على أدلة الإمام الشافعي .
يجاب عن الوجه الأول في الدليل الثالث والدليل الربع بأن السنة وحى من الله كالقرآن وما الرسول إلا معبر ومبلغ عنها فقط فالآتي بالسنة على الحقيقة هو الله يدل لذلك قوله تعالى ( وما ينطق عن الهوى ) وقوله ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ).
ويجاب عن الوجه الثاني من الدليل الثالث :
بأن النسخ في الآية أعم من أن يكون في التلاوة أو في الأحكام والخيرية والمثلية أعم من أن يكونا في الثواب أو المصلحة وإن كان القرآن خير منها من جهة خصائصه.
ثانيا: الوقوع:
ذهب جمهور المجوزين لنسخ القرآن بالسنة المتواترة إلى القول بوقوع ذلك سمعا واستدلوا لذلك بما يأتي:
أ: يقول الله تعالى ( والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائه جلدة ) فهذه الآية تقرر وجوب الجلد مائه للزاني أو الزانية سوا كان بكرا أو ثيبا .
ثم أتت السنة فنسخت الجلد عن الثيب والثيبة وقررت الرجم بالنسبة لهما حيث رجم النبي (ص) ماعزا والغامدية ولم يجلدهما فثبت نسخ الجلد بالسنة .
ب: أوجب الله تعالى الوصية للوالدين والأقربين بقوله تعالى ( كتب عليكم أذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا والوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين ) ثم نسخ هذا الوجوب بحديث ( لا وصية لوارث).
وناقش الشافعي هذا الدليل فقال:
إن هذا الحديث لا يصلح ناسخا لأنه خبر آحاد وإذا سلم أنه متواتر فلا نسلم أن يكون هو الناسخ بل الناسخ آية المواريث بدل لذلك قول النبي (ص) في صدر الحديث ( إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لاوصية لوارث).
نسخ السنة بالقرآن :
اختلف العلماء في جواز ذلك على ما يأتي :
أ- ذهب الجمهور إلى القول بجواز نسخ السنة بالكتاب عقلا ووقوعه سمعا.
ب- ذهب الشافعي رضي الله عنه في أحد قوليه إلى المنع وهذا هو الأظهر في مذهبه.
أدلة الجمهور :
أولا أن السنة وحي من الله تعالى كما أن القرآن وحي ولا مانع من أ، ينسخ وحى بوحي .
ثانيا: لو لم يجز نسخ السنة بالقرآن لما وقع لكنه وقع فيكون جائزا ويدل للوقوع ما يأتي:
1: التوجه في الصلاة إلى بيت المقدس في صدر الإسلام لم يعرف في الشريعة إلا بالسنة وقد نسخ بقوله تعالى ( فول وجهك شطر المسجد الحرام فولوا وجوهك شطره).
2: كان الاستمتاع بالنساء في ليالي رمضان محظورا من بعد صلاة العشاء أو النوم وكان هذا الحكم معروفا من السنة فقط حيث لم يرد في القرآن ما يدل على ذلك ثم نسخ هذا التحريم بقوله تعالى : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ).
أدلة الإمام الشافعي :
استدل الإمام الشافعي على ما ذهب إليه من المنع بما يأتي:
أولا: بقوله الله تعالى ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) فالله تعالى جعل السنة مبينة للقرآن فلا يكون القرآن مبينا لها.
يجيب د. عبد الفتاح الحسيني قائلا: لا مانع من ذلك لأنهما من عند لله (وما ينطق عن الهوى)
ثانيا: لو جاز نسخ السنة بالقرآن لانفتح الباب لإهدار كل السنن المبينة للقرآن بدعوى أنها منسوخة به احتجاجا بإطلاق القرآن خصوصا إذا لم يعلم أيهما المتقدم.
أنواع النسخ في القرآن
أولا: نسخ التلاوة والحكم :
وهو عبارة عما ينسخ من القرآن بالا نساء أو الأمر بعدم تلاوته وعدم العمل بحكمه وهذا النوع من النسخ اتفق القائلون بالنسخ على جوازه في حياة النبي (ص) ودليلهم على ذلك قوله تعالى : (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ) فيكون معنى الآية : لاتنسى إلا ما شاء الله نسيانه .
أمثلة لهذا النوع من النسخ:
أولا روي عن عبد الرزاق والحاكم وصححه عن أبي كعب: أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة أو أكثر من سورة البقرة.
ثانيا : روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات وتوفي رسول الله (ص) وهن فيما يقرأ من القرآن ) أخرجه مسلم.
ثانيا: نسخ الحكم دون التلاوة:
وهو عبارة عن بقاء النص متلو في القرآن مع نسخ الحكم المتضمن له ومن أمثلة ذلك:
1 : آية الوصية للوالدين والأقربين حيث يقول الله تعالى ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خير الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين )فهذه الآية متلوة في القرآن مع أن حكمها قد نسخ إما بآية المواريث أو حديث لا وصية لوارث أو بالإجماع .
2 : آية المثابرة حيث يقول الله تعالى : ( يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائه يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لايفقهون) .فهذه الآية متلوة في القرآن مع أن حكمها منسوخ بأية ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فان يكن فيكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ).
ثالثا: نسخ التلاوة دون الحكم :
وهو عبارة عن إزالة النص الدال على الحكم من القرآن مع بقاء العمل بالحكم المتضمن له ومن أمثلة ماروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : كان فيما يتلى من القرآن ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله ) رواه مالك في الموطأ والبخاري ومسلم .
رابعا : نسخ كلي :
وهو عبارة عن إبطال النص لحكم شرع من قبل بنص آخر إبطالا كليا بالنسبة لكل فرد من أفراد المكلفين وذلك كاعتداد المتوفي عنها زوجها حولا باعتدادها أربعة أشهر وعشرا.
قال الله تعالى ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فان خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف ).
فإنها منسوخة بقوله تعالى ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فان بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف).
فالآية الأولى أفادت أن من توفي عنها زوجها يوصي لها بنفقة سنة وبسكنى مدة عام مالم تخرج فإذا خرجت فلا شئ عليها كما أنها جعلت للمتوفي عنها زوجها حق الخروج في أي زمن .
أما الآية الثانية فأفادت وجوب انتظار الزوجة المتوفي عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا ويلزم في ذلك عدم جواز خروجها في هذه المدة.
خامسا: نسخ جزئي:
وهو عبارة عن أن يشرع الحكم عاما شاملا لكل أفراد المكلفين ثم يلغى الحكم بالنسبة لبعض الأفراد وذلك كقولة تعالى( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ).
فهذه الآية بعمومها تدل على أن عدة المتوفي عنها زوجها سواء كانت حامل أو غير حامل أربعة أشهر وعشرا ، ثم نزل قوله تعالى( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) فهذه الآية بعمومها تدل على أن عدة الحامل تكون بوضع الحمل سواء كانت مطلقة أو متوفي عنها زوجها ، وعلى ذلك تكون هذه الآية ناسخة للآية الأولى بالنسبة للحامل فتعتد الحامل بوضع حملها لا أربعة أشهر وعشرا ولو كانت متوفي عنها زوجها .

